لنتشمس على شواطئ الفكر...
كان بديهياً في الماضي أن يقضي الرجل كل وقته في
العمل خارج المنزل ليجمع لقمة العيش و كذلك المرأة تقضي وقتها في تدبير أمور بيتها
دون ان يفكر أي منهما و لو لبرهة أن يكون لهما
فضاءً خاصاً بهما يتنفسان من خلاله أو أن يبوحان بما تجول في خاطرهما من
أشجان و آهات.
قديماً قالت زوجة شاعر لابنها الصغير و هي
تقص له قصة النمل و الصرصور: (...و ظل الصرصور يقضي وقته في الغناء و القفز هنا و
هناك بينما النمل يعمل و يجمع مئونته. و حين جاء الشتاء جاع الصرصور و جاع أولاده
و صاروا يبكون و يطالبون بالطعام. قالوا له: كل المخلوقات في الدنيا تطعم أولادها.
ما ذنبنا إذا كنت تحب الغناء و اللهو؟!
الطعام إما أن يأتي من العمل أو من التسول.
تدخلت جدة الطفل و قالت لكنتها: قصتك جميلة لكنها قاسية.
أما الشاعر فرفع رأسه و قال: الصرصور يغني و
يشدو لأنه يريد أن يكون بلبلا و النمل لا يريد إلا أن يكون نملا. فالنمل كله
متشابه, من منا يستطيع أن يميز نملة عن أخرى؟ لا هَمّّ للنملة إلا أن تصل باللقمة
الى وكرها دون أن تداس تحت الأرجل.)
الحياة تتطور بالذين يمسكون شيئاً فيحولونه
الى شيء آخر, الذين يحولون الجلد الى آلة موسيقية, الذين يحولون الكلام الى شِعر,
الذين يحولون الرحيق الى عسل...
لماذا خطر على بال الأم أن تحول إنتباه طفلها
الى النمل و لم تحوله الى النحل؟ هل لأنها تريده أن يفهم قيمة العمل و يعرف كيف
يعتمد على نفسه عند الشدائد؟ أم هكذا سمعتْ الحكاية من أمها التي هي الأخرى سمعتْ
من جدتها؟ هل سبق و أن فكرنا بتغيير الحكايات التي نسمعها من آبائنا؟ متى سيأتي
الأوان أن نضع بصمتنا على جبين هذا الزمان الذي نعيش فيه؟ ألم يأن لنا أن نخرج من
قوقعة الماضي و العادات و نتشمس قليلا على شواطئ الفكر المعاصر؟
أسئلة تحيّر من يسألها أكثر من الذي يجيب
عليها. معضلة صعبة تجبر من يفكر في فكّها أن يضع نفسه تحت رحمة المطرقة و السندان.
يقول الله عز و جل في محكم كتابه: ( ... إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ) [الرعد:11].
فالله يريد منا أن نغير أنفسنا بأنفسنا من
خلال التفكير السديد و العمل السليم و لكن التغيير يجب أن يكون للأفضل لا للأسوأ
لأن تغيير
العادات القديمة يتطلب منا أن نأتي بأدلة و براهين تثبت صحة ما نفكر فيه.
هذه هي فلسفة الحياة البشرية, نحب الخير لكننا
نعمل الشر أيضاً, نحب العبادة و رضى الرب لكننا نعمل الخطايا أيضاً, نحب الأبيض
لكننا قد نلبس الأسود أيضاً...
الفائز في هذه المسابقة هو الذي يجد مكاناً
يناسب حجمه و حجم أفكاره بين العمل القاسي و الراحة الفكرية ليصل في النهاية الى
الهدف الذي من أجله وجدنا على هذه المعمورة ألا و هو الحياة السعيدة.
0 comments: